المحاسبة هي : محاسبة النفس كل يوم عمّا عملته من الطاعات والمبرّات ، أو اقترفته من المعاصي والآثام ، فان رجحت كفّة الطاعات على المعاصي ، والحسنات على السيئات ، فعلى المحاسب أن يشكر الله تعالى على ما وفّقه إليه وشرّفه به من جميل طاعته وشرف رضاه ، وإن رجحت المعاصي ، فعليه أن يؤدّب نفسه بالتأنيب والتقريع على شذوذها وانحرافها عن طاعة الله تعالى .
وأمّا المراقبة : فهي ضبط النفس وصيانتها عن الإخلال بالواجبات ومقارفة المحرّمات .
وجدير بالعاقل المستنير بالإيمان واليقين ، أن يروّض نفسه على المحاسبة والمراقبة فإنّها أمّارة بالسوء ، متى أهملت زاغت عن الحق ، وانجرفت في الآثام والشهوات ، وأودت بصاحبها في مهاوي الشقاء والهلاك ، ومتى أُخذت بالتوجيه والتهذيب ، أشرقت بالفضائل ، وازدهرت بالمكارم ، وسمت بصاحبها نحو السعادة والهناء ، قال الله تعالى : ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ) الشمس : 7 ـ 10 .
هذا إلى أنّ للمحاسبة والمراقبة أهمّية كبرى في تأهّب المؤمن ، واستعداده لمواجهة حساب الآخرة ، وأهواله الرهيبة ، ومن ثمّ اهتمامه بالتزوّد من أعمال البر والخير الباعثة على نجاته وسعادة مآبه ، لذلك طفقت النصوص تشوّق وتحرّض على المحاسبة والمراقبة بأساليبها الحكيمة البليغة .
قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( إذا أراد أحدكم أن لا يسأل ربّه شيئاً إلاّ أعطاه ، فلييأس من الناس كلّهم ، ولا يكون له رجاء إلاّ من عند الله تعالى ، فإذا علم الله تعالى ذلك من قلبه لم يسأل شيئاً إلاّ أعطاه ، فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا عليها ، فإنّ للقيامة خمسين موقفاً كل موقف مقام ألف سنة ) .
وقال الإمام موسى الكاظم ( عليه السلام ) : ( ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كل يوم ، فإن عمل حسنة استزاد الله تعالى ، وإن عمل سيئة استغفر الله تعالى منها وتاب إليه ) .
وعن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : ( إنّ رجلاً أتى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال له : يا رسول الله أوصني .
فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : فهل أنت مستوصٍ إن أنا أوصيتك ؟ حتّى قال له ذلك ثلاثاً ، وفي كلّها يقول له الرجل : نعم يا رسول الله .
فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : فإنّي أوصيك إذا أنت هممت بأمر فتدبّر عاقبته ، فإن يك رشداً فأمضه ، وإن يك غيّاً فانته عنه ) .
وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) لرجل : ( إنّك قد جُعلتَ طبيب نفسك ، وبُيّن لك الداء ، وعُرّفت آية الصحّة ، ودُلِلت على الدواء ، فانظر كيف قياسك على نفسك ) .
وعن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) عن آبائه ( عليهم السلام ) قال : ( قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بعث سرية ، فلمّا رجعوا قال : مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر ، وبقي عليهم الجهاد الأكبر .
قيل : يا رسول الله ، وما الجهاد الأكبر ؟ قال : جهاد النفس ، ثمّ قال : أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه ) .
دستور المحاسبة :
لقد ذكر المعنيون بدراسة الأخلاق دستور المحاسبة والمراقبة بأسلوب مفصّل ربما يشق على البعض تنفيذه ، بيد أنّا نعرضه مجملاً وميسّراً في أمرين هامّين :
1ـ أوّل ما يجدر محاسبة النفس عليه أداء الفرائض التي أوجبها الله تعالى على الناس ، كالصلاة والصيام والحج والزكاة ونحوها من الفرائض ، فإن أداها المرء على الوجه المطلوب ، شكر الله تعالى على ذلك ورجّى نفسه فيما أعدّ الله للمطيعين من كرم الثواب وجزيل الأجر .
وإن أغفلها وفرّط في أدائها خوّف نفسه بما توعّد الله العصاة والمتمرّدين عن عباده بالعقاب الأليم ، وجد في قضائها وتلافيها .
2ـ محاسبة النفس على اقتراف الآثام واجتراح المنكرات ، وذلك : بزجرها زجراً قاسياً ، وتأنيبها على ما فرّط من سيئاتها ، ثمّ الاجتهاد بما فات بالندم عليه والتوبة الصادقة منه .
قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( إنّ رسول الله نزل بأرض قرعاء ، فقال لأصحابه : ائتونا بحطب ، فقالوا : يا رسول الله ، نحن بأرض قرعاء ما بها من حطب ، قال : فليأت كل إنسان بما قدر عليه ، فجاءوا به حتّى رموا بين يديه بعضه على بعض ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : هكذا تجتمع الذنوب ، ثمّ قال : إيّاكم والمحقّرات من الذنوب ، فإنّ لكل شيء طالباً ، ألا وإنّ طالبها يكتب : مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) .